مجتمع

المعادن الحرجة: عودة إلى ساحة الصراع في ظل هيمنة التنين

دخلت المعادن الحرجة مرحلة جديدة من الأهمية وصارت محط اهتمام دول كثيرة، لدرجة بات السيطرة على تلك المعادن يتصدر أجندة أولوياتها ويهدد بصدام جيوسياسي.

future صورة تعبيرية (هيمنة الصين على المعادن الحرجة)

عادت المعادن الحرجة إلى ساحة التنافس الدولي من جديد، وهي التي تُعد مدخلاً أساسياً ومحركاً رئيسياً لا غنى عنه للصناعات التكنولوجية والتقنيات المتقدمة؛ ففي أغسطس 2024، أعلنت الصين فرض قيود جديدة على تصدير بعض المعادن الحرجة، ثم هددت بالانتقام الاقتصادي الشديد ضد اليابان، بفرض قيود إضافية على مبيعات وصيانة معدات تصنيع الرقائق، وذلك على خلفية التعاون الياباني – الأمريكي للحد من تقدم بكين التكنولوجي.

تحظى المعادن بأهمية بالغة منذ دخول عصر الثورة الصناعية، التي بدأتها أوروبا منذ قرون، كونها هي الرافعة الأساسية لتلك الثورة، وسبباً رئيسياً في تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة لعديد الدول. بيد أنه مع تسارع وتيرة التطور العلمي والتكنولوجي وظهور ما يُسمى بالمعادن الحرجة، والتي باتت محور صناعات تكنولوجيا المستقبل والمحرك الرئيسي لتكنولوجيا أشباه المواصلات والمعدات العسكرية والطاقة النظيفة، أضحى لتلك المعادن أهمية بالغة، وبات استدعاؤها على ساحة التنافس الدولي أمراً لا مفر منه.

وعلى ذلك، دخلت المعادن الحرجة مرحلة جديدة من الأهمية، وصارت محط اهتمام الكثير من الدول، لا سيما المتقدمة، لدرجة بات معها السيطرة على تلك المعادن الحرجة وتأمين إمداداتها واحتياجاتها منها يتصدر أجندة أولوياتها، ويهدد بوقوع صدام جيوسياسي.

في قلب الصراع

تعود أهمية المعادن الحرجة إلى كونها تُستخدَم بشكل أساسي في مجال الطاقة وتطوير تقنيات الطاقة النظيفة؛ إذ تُعد عناصر مثل الجاليوم والإنديوم والتيلوريوم، أساسية لصناعة رقائق الخلايا الشمسية وتوربينات الرياح، كما تُستخدَم عناصر أخرى من المعادن الحرجة كالليثيوم في تخزين الطاقة القائم على البطاريات.

كذلك تدخل هذه المعادن في إنتاج الكثير من المعدات المتطورة والدقيقة، مثل الإلكترونيات الاستهلاكية، ومعدات التصوير الطبي، وقطع غيار السيارات، وغيرها من السلع الأخرى عالية التقنية. علاوة على ذلك لا تستطيع دولة ما أن تُحقق تطوراً في مجال الدفاع أو التكنولوجيا العسكرية أو الفضاء، دون المعادن الحرجة؛ إذ تُستخدَم هذه المعادن في إنتاج نظارات الرؤية الليلية، وأجهزة تحديد المدى بأشعة الليزر، وأجهزة الاتصالات المتطورة، وأنظمة الطيران المتقدمة.

وفي ظل هذه الأهمية المتزايدة، كان من الطبيعي أن تصبح المعادن الحرجة جزءاً من التنافس الدولي؛ إذ باتت حاضرة وبقوة في السباق المحتدم بين كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، من أجل ضمان التفوق التكنولوجي، والذي يؤثر بدوره على مختلف القطاعات الأخرى، سواء الاقتصادية أو العسكرية أو غيرها، خاصةً مع اعتبار كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية تلك المعادن ثابتاً من ثوابت الأمن القومي.

ما جعل احتمالية الصراع والصدام الجيوسياسي بين هذه القوى المتنافسة حول هذه الموارد الحرجة أمراً وارداً، يظهر من استعراض تلك المؤشرات والمسارات التي تبنَّتها الأطراف المتنافسة؛ بُغية الاستحواذ على تلك المعادن واستخدامها كورقة ضغط لصالحها ضد الأطراف الأخرى.

تمثل أول مؤشرات استدعاء المعادن الحرجة على ساحة التنافس الدولي في إقدام الصين عام 2010 على إيقاف صادراتها من هذه المعادن إلى اليابان، بسبب نزاع على جزر «سينكاكو/ دياويو» بين البلدين، ما تسبب في تعرضها لانتقادات وضغوط شديدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

السلاح نفسه لوَّحت به الصين في خضم معركة الرسوم الجمركية المتبادلة بينها وبين الولايات المتحدة خلال فترة إدارة ترامب؛ حيث أشارت وسائل إعلام صينية إلى إمكانية تقييد مبيعات المعادن الأرضية النادرة للولايات المتحدة، إذا استمرت إدارة ترامب في فرض رسوم على سلع صينية.

بحلول عام 2024 عاد سلاح المعادن الحرجة إلى ساحة الصراع بشكل قوي، مع إعلان بكين تقييد صادرات بعض المعادن شائعة الاستخدام في إنتاج أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية والصناعات المتقدمة تقنياً، بدعوى حماية أمنها القومي، وتهديدها لطوكيو بقطع وصول المعادن الحيوية إليها، وهي الضرورية لإنتاج السيارات اليابانية. وذلك رداً على جهود واشنطن وطوكيو للحد من التقدم التكنولوجي للصين، من خلال فرض قيود على تصدير الرقائق الأمريكية إلى الصين، والإيعاز لحلفائها في اليابان وهولندا بأن يحذوا حذوها.

تعددت الأسماء والأهمية بالغة

تتعدد التسميات المستخدمة لوصف هذه المعادن، بين: العناصر الأرضية النادرة أو المعادن الأرضية الحرجة أو المعادن الاستراتيجية، ولكنها تُعرف بأنها تلك المعادن الضرورية للاقتصاد والأمن القومي لدولة مـا، وتؤدي وظيفة أساسية في إنتاج وتصنيع المنتجات، وتتميز بكونها سريعة التأثر والانقطاع فيما يتعلق بسلاسل إمدادها وتوريدها، ويمكن لغيابها أن يؤدي لعواقب وخيمة على الأمن الاقتصادي أو الوطني للدولة.

والمعادن الحرجة ليست مجموعة من المعادن والعناصر الثابتة؛ إذ يمكن أن تختلف وتتغير من آن لآخر ومن دولة لأخرى، وذلك مع تطور ديناميكيات العرض والطلب، أو تغير الاعتماد على استيرادها من الخارج، أو مع استحداث تقنيات جديدة قد تجعل من معدن جديد معدناً حرجاً، وتحذف آخر من تلك القائمة. وبحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) تتضمن قائمة المعادن الحرجة لعام 2022 نحو 50 عنصراً.

ورغم أن العديد من المعادن الحرجة تُعرف كذلك بالنادرة، فإنها ليست بالضرورة نادرة أو غير متوفرة؛ إذ تتوافر على نطاق واسع في القشرة الأرضية، لكن ما يتم استخراجه منها جرَّاء عمليات التعدين عادةً ما يكون أقل مقارنة بالمعادن الأخرى، كما أن عملية استخراج هذه المعادن محفوف بالتحديات ومُستنزِّف لرأس المال، بالإضافة إلى أن تحويلها لسلع وسيطة أو منتجات نهائية قابلة للاستخدام يتطلب بذل استثمارات ضخمة.

قد يتساءل البعض ما الفرق إذن بين المعادن الحرجة والاستراتيجية، خاصةً أنهما يبدوان مفهومين مترابطين بشكل وثيق، وعادةً ما يتم استخدامهما للإشارة إلى المعنى نفسه، لكن ثمة اختلافاً بسيطاً بينهما؛ إذ يُصنَّف المعدن استراتيجياً عندما يكون عنصراً لا غنى عنه لدعم اقتصاد الدولة أو أمنها القومي أو أمن الطاقة أو التكنولوجيا بها، أما المعادن الحرجة فإنها تتسم بجانب الخصائص السابقة بالهشاشة والضعف الكبير في سلاسل توريدها، ومن ثَمَّ يصبح كل معدن حرج استراتيجياً، ولكن ليس كل معدن استراتيجي حرجاً بالضرورة.

هيمنة التنين

تُثبت الأرقام بسط الصين سيطرتها على المعادن الحرجة، سواء على صعيد الإنتاج أو التصنيع أو المعالجة؛ إذ بحلول عام 2021 بلغت نسبة إنتاجها من المعادن الحرجة نحو 60% من إجمالي الإنتاج العالمي لتلك المعادن، بالإضافة إلى قيامها بمعالجة وتكرير ما يقرب من نحو 90% من هذه المعادن بعد استيرادها من الدول الأخرى المنتجة لها.

وبنهاية عام 2022 كانت بكين قد أكدت أنها صاحبة الكلمة العليا في هذا المجال؛ حيث استأثرت وحدها بإنتاج نحو 210 آلاف طن من المعادن الحرجة، من إجمالي إنتاج المعادن الحرجة عالمياً والبالغ 298.6 ألف طن خلال عام 2022، وبفارق ضخم عن الولايات المتحدة الأمريكية ثاني أكبر منتج للمعادن الحرجة بقيمة إنتاج بلغت نحو 43 ألف طن.

التفوق نفسه انسحب على احتياطيات الصين من المعادن الأرضية النادرة، وما تمتلكه من قدرات فنية عالية في معالجة وتكرير وفصل هذه المعادن؛ إذ تستحوذ الصين وحدها بفعل هبات الموارد الطبيعية على نحو 35% تقريباً، أي ما يعادل 44 مليون طن من احتياطيات المعادن النادرة في العالم، والتي قُدرت بنحو 125.6 مليون طن متري بنهاية 2022.

كما تمتلك بكين مصافي معالجة وتكرير وفصل ذات قدرات فنية عالية، إذا ما قورنت بنظائرها في أوروبا وأمريكا، ما جعلها المعالج والمكرر الأساسي للمعادن النادرة عالمياً. فعلى سبيل المثال تسيطر الصين على نحو 95% من عمليات تكرير خام المنجنيز رغم أن إنتاجها منه لا يتعدى 10%.

دوافع محـركة

ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء هذا التنافس الدولي المحموم بين الدول الكبرى للسيطرة على تلك المعادن الحرجة، وتدعم استمراره في الأجلين القصير والبعيد، ويمكن استعراض أبرزها فيما يلي:

  1. ارتباط المعادن الحرجة بالعديد من الصناعات التكنولوجية المتطورة في المجالات المختلفة؛ إذ تعد مكوناً رئيسياً في قيادة قاطرة التوجه العالمي نحو الصناعات عالية الدقة والانتقال نحو الطاقة النظيفة. على سبيل المثال تعمل السيارات الكهربائية التي تصنعها شركة تسلا وشركات السيارات الأخرى ببطاريات أيونات الليثيوم، كما تدخل في إنتاج الكثير من المعدات المتطورة والدقيقة في مجال الدفاع والتكنولوجيا العسكرية والفضاء؛ إذ تُستخدم هذه المعادن في إنتاج نظارات الرؤية الليلية وأجهزة تحديد المدى بأشعة الليزر وأجهزة الاتصالات المتطورة وأنظمة الطيران المتقدمة والجيل الجديد من الأسلحة الحديثة والمتطورة.

  2. تخوُّف الولايات المتحدة الأمريكية من استخدام الصين لهيمنتها على سوق المعادن الحرجة كسلاح للتأثير على إمداداتها منها، بما يضر أمنها القومي ويحد من تفوقها التكنولوجي والاقتصادي والعسكري. يفسر ذلك - على سبيل المثال - تحذير أحد كبار المستشارين بالبيت الأبيض من الركون إلى سلاسل توريد المعادن الحرجة التي تتحكم فيها الصين، ورصد وزارة الطاقة الأمريكية نحو 16 مليون دولار لدعم جهود تطوير سلاسل إمدادات محلية للمعادن الحرجة وتقليل الاعتماد على منافسين مثل الصين.

  3. رغبة الولايات المتحدة في تقويض طموحات الصين فيما يتعلق بالهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية، والحد من تقدمها التكنولوجي، ومنعها من استخدام تلك التقنيات في تعزيز قدرات الجيش الصيني، يما يهدد تفوق الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها على العالم عسكرياً واقتصادياً.

  4. سعي الصين إلى تعزيز مكانتها العالمية في مواجهة المنافسة الغربية فيما يتعلق بالصناعات التقنية والتكنولوجيا المتقدمة؛ حيث تربعت بكين على عرش صناعة السيارات الكهربائية بفضل الإمكانات الضخمة التي تتمتع بها، وفي ظل المتطلبات العديدة لهذه الصناعة؛ إذ تُعد الصين موطناً لأربع من أكبر 10 شركات لتصنيع البطاريات في العالم.

  5. سعي الصين إلى استخدام هيمنتها على المعادن الحرجة باعتبارها المُنتِّج الأكبر والمُعالِج والمُكرِّر الرئيسي والمُسيطِر على سلاسل التوريد لتلك المعادن، كورقة قوة تُحقِّق توازناً مع الغرب، والذي يسعى لاحتواء بكين، متهما إياها بالقرصنة التكنولوجية، لا سيما فيما يتعلق بأشباه الموصلات.

  6. الرغبة في تعزيز تقنيات الطاقة النظيفة، من أجل مواجهة التغير المناخي ومحاولة الوفاء بالتزامات الحياد الكربوني، تطبيقاً لاتفاقية باريس للمناخ؛ فالمعادن الحرجة هي العمود الفقري لصناعة الطاقة النظيفة، وتدخل في تصنيع بطاريات التخزين وتوربينات الرياح وغيرها من متطلبات ومدخلات صناعة الطاقة النظيفة.

  7. تحقيق أمن الطاقة؛ إذ تمثل المعادن الحرجة فرصة بديلة للدول المنتجة لها لتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، اعتماداً على الطاقة الخضراء، وبعيداً عن الاعتماد على الوقود الأحفوري، وبالأخص الدول الغربية، خاصة بعد إعلان عديد من دول العالم أن أمن طاقتها بات في خطر عقب قطع روسيا إمداداتها من الغاز عن أوروبا على خلفية الحرب الأوكرانية.

إجمالاً، يتضح أنه بالرغم من سيطرة الصين على مجال المعادن الحرجة، وحاجة الشركات الأمريكية إلى قطع شوط طويل للحاق بنظيراتها الصينية ومنافستها، فإن التنافس الدولي على تلك المعادن يبدو أنه يسير بوتيرة متصاعدة نحو الصدام، كونها أضحت جزءاً من صراع أكبر على الهيمنة التكنولوجية، بما يضمن التفوق العسكري والاقتصادي لتلك الدول، ويدعم استقلال وأمن طاقتها، تجنباً للانعكاسات السلبية لأي توترات جيوسياسية.

# الصين # الولايات المتحدة الأمريكية

جولات بلينكن في المنطقة ولعبة سياسة الهندسة
بايدن ينسحب وكامالا هاريس في مواجهة ترامب
كيف حفرت طرابلس الليبية اسمها في نشيد «المارينز» الأمريكي؟

مجتمع